الخليفة العباسي المنصور صانعو التاريخ
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الخليفة العباسي المنصور صانعو التاريخ
المقدمة
قد ارتبط اسم الخليفة العباسي المنصور بالجدية ، فكان عملاقا في أيامه، بل من عمالقة التاريخ.
يعد أبو جعفر المنصور هو المؤسس الحقيقي للدولة العباسية التي ظلت خمسة قرون زينة الدنيا ومركز الحضارة ومعقل الثقافة وعاصمة العالم . نهض الخليفة المنصور إلى الخلافة بعد أن أصقلته التجارب وأنضبته المحن وخبر الناس وعاشرهم.
وما أن أمسك زمام الأمور حتى نجح في التغلب على مواجهة صعاب وعقبات توهن عزائم الرجال وتضعف عزائم الأبطال وتبعث اليأس والقنوط في النفوس ، فكانت مصلحة الدولة هي شغله الشاغل ، فأحكم خطوه ، وأحسن تدبيره للأمور ، وتفجرت في نفسه طاقات هائلة من التحدي . فأقام دولته اليقظة ، الدائمة ، والمثابرة ، الدائبة ، والسياسة الحكيمة .
كان المنصور من الحزم وصواب الرأي وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف ، وكان يعطي الجزيل والخطير ما كان عطاءه حزماً ، ويمنع الحقير اليسير ما كان إعطاءه تضيعاً ، وكان كما قال زياد : كان ينظر فيما لا ينظر فيه العوام ، ومن كرمه أنه وصل عمومته وهم عشرة في يوم واحد بعشرة آلاف درهم .
وفي بحثي هذا أتناول قطوفاً مختصرة من حياة هذا الرجل العظيم ، الذي لم تخلو حياته من بعض السلبيات – القليلة – ولكن لا ننسى أنه قبل كل شيء إنسان له نوازع النفس البشرية من غضب وحلم ، وضر ونفع ، وبغض وحب ، وأي من هذه النزعات كانت تأتي مع ظروفها التي تتحكم فيها .
ولد المنصور بالحميمة وأدرك جده ولم يرو عنه وروى عن أبيه وعن عطاء بن يسار وعنه ولده المهدي وبويع بالخلافة بعهد من أخيه وكان فحل بني العباس هيبة وشجاعة وحزماً ورأياً وجبروتاً جماعاً للمال تاركاً اللهو واللعب كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب فقيه النفس .
كان المنصور حاجا وقت وفاة السفاح فعقد له البيعة بالأنبار عمه عيسى بن علي في ذي الحجة سنة ست و ثلاثين ومائة، وهو ابن إحدى وأربعين سنة وعشرة أشهر .
* الأحوال السياسية في عهد المنصور :
تولى المنصور الخلافة ولم تكن قد توطدت دعائمها بعد ولم يكن يُخاف عليها من الدولة البائدة دولة الأمويين لأنه لم تبق لهم بقية يُخاف منها وإنما كان الخوف ينتاب المنصور من ثلاث جهات :
• الأولى : منافسة عمه عبد الله بن علي له في الأمر .
• الثانية : من عظمة أبي مُسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية .
• الثالثة : وهي أقوى هذه الجهات الثلاث خوفه من بني عمه آل علي بن أبي طالب الذين لا يزال لهم في قلوب الناس مكان رفيع ، لاسيما محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم الذين قادا الثورة ضد بني العباس .
كان المنصور يجمع إلى الجرأة وبعد الهمة ، المكر والدهاء فعزم أن يضرب خصومه بعضهم ببعض حتى يستريح منهم جميعا .
الإدارة في عهد المنصور :
كانت الطريقة التي تدار بها البلاد لا تختلف عن طريقة بني أمية ، فكان في كل ولاية وال يعينه الخليفة وأعماله هي إقامة الصلاة للمسلمين وجهاد العدو وجباية الخراج وحفظ الأمن وفصل الخصومات بين الناس وقد كان الوالي تسند إليه أحيانا هذه الأمور الخمسة فيكون إمام القوم وقائد الجند وينتدب للخراج والشرطة والقضاء من يراه أهلاً للقيام بها وأحياناً يكون إليه الصلاة والشرطة والجهاد والخراج ويكون للحرب أمير آخر مستقل عن أمير الصلاة ويعين القاضي من قبل الخليفة رأساً .
وجميع أمور الولايات ترجع إلى الخليفة الذي هو صاحب الأمر المطاع ومعينوه هم :
• أولاً : الوزير .
الوزارة لم تكن معروفة بهذا الاسم في عهد الدولة الأموية وأول من سمي بها لعهد السفاح هو أبو سلمة الخلال شيخ الدعوة بالكوفة فقد كان يعرف بوزير آل محمد وأصله مولى لبني الحارث بن كعب وكان سمحاً كريماً مطاعاً كثير البذل ، وكان اتهامه بالميل لآل عليّ سبباً في مقتله .
أستوزر السفاح بعد ذلك خالد بن برمك جد البرامكة الذين ظهر مجدهم في عهد هارون الرشيد وكان خالد من رجال الدعوة الذين أقاموا الدولة . وكان خالد فاضلاً كريماً حازماً ، إلاّ أنه لم يسمى باسم الوزير تطيراً مما جرى على أبي سلمة فكان يعمل عمل الوزراء ولا يسمى وزيراً .
لما تولى المنصور لم تكن للوزارة في أيامه أبهة ولا كبير قدر لما كان موصوفاً به من الاستبداد بأموره أبقي في وزارته خالداً مدة ليست طويلة ثم أعفاه وولى : أبو أيوب سليمان ، كان في أواخر دولة بني أمية كاتباً لسليمان بن المهلب ، وكان المنصور في ذاك الزمن ينوب عن سليمان هذا في بعض كور فارس فأتهمه بأنه أحتجز مالاً لنفسه فضربه بالسياط ضرباً شديداً وكان يريد الفتك به فخلصه منه أبو أيوب فاعتبرها المنصور له فضلاً , ورغم ما كان بين أبو أيوب والمنصور فقد كان الأول يخشى بطش الثاني ؛ وقد كان ما خافه أبو أيوب فإن المنصور غضب عليه سنة 153هـ وعذبه وأخذ أمواله وحبس أخاه وبني أخيه .
أستوزر المنصور بعد أبي أيوب الربيع بن يونس ، وكان أحد جدوده أبو فروة كيسان مولى عثمان بن عفان – رضي الله عنه – ظل الربيع في الوزارة حتى توفي المنصور ، وكان الربيع عارفاً بخدمة الخلفاء محبوباً عندهم وهو الذي أخذ البيعة للمهدي مما جعل المهدي يبقيه على درجته التي كان عليها في عهد أبيه المنصور . وكانت وفاته سنة 170هـ في خلافة الهادي . وهكذا نجد أن نكبات الوزراء لم تكن قليلة بل قلما نجد في وزراء بني العباس من سلم منها .
• ثانياً : الحاجب .
هو موظف كبير لا يمثل أحد بين يديّ الخليفة إلاّ بأذنه ، وقد وجد الحاجب في عهد بني أمية وقد أحدثوه لما خشوا على أنفسهم من الفاتكين بعد حادثة الخوارج مع علي وعمرو بن العاص ومعاوية . وكان إلى الحاجب التقديم والتأخير في الإذن حسبما يرى من مقامات الناس ودرجاتهم .
وقد ظلت الحجابة في ارتقاء كلما ارتفعت الحضارة وقد سار خلفاء بني العباس على نمط بني أمية في ذلك وكان للحاجب في عصرهم مرتبة عالية وكثيراً ما كان مستشاراً للخليفة .
• ثالثاً : الكاتب .
وهو الذي يتولى مخاطبة الملوك والأمراء وغيرهم باسم الخليفة ، وكثيراً ما كان يتولى الخليفة نفسه تلك الكتابة ، كما ورد أن المنصور لمّا جاءته رسالة محمد بن عبد الله قال له كاتبه دعني أجبه عليها فقال أبو جعفر لا بل أنا أجبه عنها ، وأحياناً كان يتولى الكتابة الوزير .
• رابعاً صاحب الشرطة .
وهو المحافظ على الأمن وكان المنصور يختار صاحب الشرطة آمن الرجال وأشدهم وكان له سلطان عظيم على المريبين والجناة إلاّ أن استبداد المنصور بالأمور ومباشرته لصغيرها وكبيرها كانا يقللان من أهمية كل عامل .
• خامساً : القاضي .
وكان ينظر في قضايا مدينة المنصور وحدها ولم يكن له سلطان على قضاة الأقاليم لأن منصب قاضي القضاة لم يكن أنشئ بعد ومن مشهوري قضاة المنصور محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ولد سنة 74هـ وتلقب بالشعبي ، وقد أقام قاضياً بالكوفة 30 سنة في الدولتين الأموية والعباسية وهو معدود من فقهاء أهل الرأي وكان بينه وبين أبي حنيفة الإمام وحشة يسيرة وقد كان أبو حنيفة يعترض عليه في بعض أحكامه وهو أصغر منه سناً فشكاه أبن أبي ليلى للأمير فمنعه الأمير من الفتيا وكانت وفاة أبن أبي ليلى سنة 148هـ .
هذه المناصب الخمسة هي أهم المناصب في الدولة وجميع المناصب الأخرى ترجع إليها وكان في كل ولاية صورة من ذلك .
الجيش في عهد الخليفة المنصور :
أهم ما تظهر به الدولة جيشها وقد كان الجيش في عهد الدولة الأموية عربياً خالصاً فلما جاءت الدولة العباسية كان ظهور نجمها علي يد أهل خراسان وبالضرورة كان لهم حظ وافر من الدولة وحمايتها لذلك كان جيش الديوان في أول عهد العباسيين مؤلف من فريقين : الأول : الجيوش الخراسانية ، والثاني : الجيوش العربية . وقوادهم من الفريقين بعضهم من العرب وبعضهم من الموالي وكان التنازع شديداً بين الفريقين بداعي العصبية القبلية . وكان أكبر القواد المعروفين في أول عهد الدولة أبو مسلم الخراساني لجيوش المشرق ، وعبد الله بن علي لجيوش المغرب ومعظمها عربي .
ويظهر أن المنصور لم يكن يرى لمصلحته ومصلحة أهل بيته ألاّ تظل كفة أهل خراسان راجحة فأصطنع كثيراً من رجالات العرب وسلمهم قيادة الجيوش كما استعان بأهل بيته ومن أعظم قوادهم عيسى بن موسى الذي سيره المنصور لحرب محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم .
ومن مشهوري قواد العرب : معن بن زائدة الشيباني وهو قائد شجاع كان في أيام بني أمية منقطعاً إلى يزيد بن هبيرة فلما جاءت الدولة العباسية وقتل يزيد خاف معن على نفسه من المنصور فأستتر مدة طويلة ، ثم حدث أن شاهد المنصور من شجاعته ما أُعجبه فكان ذلك سبباً في أن أعطاه المنصور الأمان وولاه اليمن.
ومن قواد المنصور أيضاً عمرو بن العلاء وقد وجهه المنصور سنة 141هـ لحرب بلاد طبرستان وكانت مضطربة بثورة المصمغان ملك دنباوند الأصبهبذ ، ففتح طبرستان وصار الأصبهبذ إلى قلعته وطلب الأمان . ولم يزل عمرو بن العلاء في رتبته إلى مدة المهدي محمد بن أبي جعفر .
حاضرة الخلافة :
رغب الخليفة أبو جعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة ، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار "بغداد" على شاطئ دجلة ، ووضع بيده أول حجر في بنائها سنة (145هـ = 762م) واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البناءين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في عام 149هـ . وانتقل إليها الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام.
وكانت مدينة المنصور مدورة الشكل لها سورين أحدهما داخل الآخر وكان السور الداخلي يُعرف باسم سور المدينة وسمكه 35 ذراعاً وله أبراج ضخمة . وللمدينة أربعة أبواب كل بابين متقابلين ولكلٍ منهما باب دون باب بينهما دهليز . وفي وسط المدينة بنى المنصور المسجد الجامع والى شرقه القصر الكبير الذي عُرف باسم باب الذهب.
وقد أنفق المنصور على مدينته هذه ثمانية عشر ألف ألف دينار في بعض الروايات. ولما تم بنائها حشر إليها المنصور العلماء من كل بلد وإقليم فأمها الناس أفواجاً ولم تزل تتعاظم ويزداد عمرانها حتى صارت أم الدنيا وسيدة البلاد ومهد الحضارة الإسلامية في عهد الدولة العباسية .
ولم يكتف المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة (151هـ = 768م) بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة ، جعلها مقرا لابنه وولي عهده "المهدي" وشيد لها سورا وخندقا ومسجدا وقصرا، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها.
الأحوال الخارجية :
في عهد المنصور هرب عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى بلاد الأندلس وأسس بها الدولة الأموية الثانية وكان المنصور يعجب به وبقدرته وعزيمته التي جعلته وهو شريد طريد يؤسس ملكاً في هذه البلدان القاصية ولم يكن بين الرجلين بالضرورة علاقة حسنة ولم يتسمى عبد الرحمن بأمير المؤمنين بل تسمى بالأمير فقط . وهذه أول بلاد اقتطعت من الخلافة الإسلامية الكبرى بالمشرق .
أما مملكة الروم التي كانت تحاد الخلافة الإسلامية من الشمال فكان يعاصر المنصور فيها قسطنطين الخامس وكانت العلاقة بين الأمتين سيئة لا تترك أحداهما قتال الأُخرى متى سمحت لها الفرصة .
وأول ما حدث في عهد المنصور أن الروم بقيادة ملكهم أغاروا سنة 138هـ على ملطية وكانت آنذاك من الثغور الإسلامية فدخلوها عنوة وقهروا أهلها وهدموا سورها إلاّ أن الملك عفا عمن فيها . ولما علم المنصور بذلك وجه عمه صالح بن علي ومعه أخوه العباس إلى ملطية فبنيا ما هدمه الروم منها وتم لهم ذلك سنة 139هـ ثم توغل القائدان في أرض الروم وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبابة أبنتا علي وكانتا نذرتا إن زال ملك بنى أمية أن تجاهدا في سبيل الله . وفي هذه السنة أستقر الأمر بين المنصور وملك الروم على المفاداة فأستنقذ المنصور من الروم أسرى المسلمين .
ولم تزل الصوائف بعد ذلك تتوالى إلى سنة 155هـ وفيها طلب صاحب الروم الصلح على أن يؤدي للمسلمين الجزية . وكانت هذه الحروب بين الطرفين إغارات لم يقصد بها فتح بل كل واحد من الطرفين ينتهز الفرصة فيجتاز الحدود التي لصاحبه ثم يعود لمقره ثانية ولم تكن المصالحات يطول زمنها بل سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه .
صفات المنصور :
• شخصية المنصور :
كان الخليفة أبو جعفر المنصور رجل عمل وجد، لم يتخذ من منصبه وسيلة للعيشة المرفهة والانغماس في اللهو والاستمتاع بمباهج السلطة والنفوذ، يستغرق وقته النظر في شئون الدولة، ويستأثر بمعظم وقته أعباء الحكم.
• أولاً : اهتمامه بالعلم والثقافة .
ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء " بيت الحكمة " في قصر الخلافة ببغداد، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزا للترجمة إلى اللغة العربية. وقد أرسل أبو جعفر إلى إمبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك، فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى العربية .
وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة (656هـ = 1258) .
• ثانياً : كيف كان المنصور يقضي وقته ؟
وشغل أبو جعفر وقته بمتابعة عماله على المدن والولايات ، وكان يدقق في اختيارهم ويسند إليهم المهام، وينتدب للخراج والشرطة والقضاء من يراه أهلا للقيام بها، وكان ولاة البريد في الآفاق يكتبون إلى المنصور بما يحدث في الولايات من أحداث، حتى أسعار الغلال كانوا يطلعونه عليها وكذلك أحكام القضاء . وقد مكنه هذا الأسلوب من أن يكون على بينة مما يحدث في ولايات دولته، وأن يحاسب ولاته إذا بدر منهم أي تقصير . وذلك كما يلي :
كان شغله في صدر النهار بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشحن الثغور وأمن السبل والنظر في النفقات ومصلحة معاش الرعية . فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته إلاّ من أحب أن يسامره . فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق وشاور سماره في ذلك . فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وأنصرف سماره فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فأسبغ وضوءه وصلى حتى يطلع الفجر . ثم يخرج فيصلي بالناس . ثم يدخل فيجلس في إيوانه .
• ثالثاً : كيف كان خلقه في بيته وخارجه .
قال الطبري عن سلامة بن الأبرش : كان الناس من أحسن الناس خلقاً ما لم يخرج إلى الناس ، وأشد احتمالا لما يكون من عبث الصبيان فإذا لبس ثيابه تغير لونه وتربد وجهه واحمرت عيناه فيخرج فيكون منه ما يكون فإذا قام من مجلسه رجع بمثل ذلك فنستقبله في ممشاه فربما عاتبنا . وقال له يوماً بابني إذا رأيتني قد لبست ثيابي أو رجعت من مجلسي فلا يدون منى أحد منكم مخافة أن أعره بشيء .
• رابعاً : الجد في بلاطه .
قال يحي بن سليم كاتب الفضل بن ربيع : لم ير المنصور في لهو قط ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث إلاّ يوماً واحداً فإنا رأينا ابناً له يُقال له عبد العزيز قد خرج على الناس متنكباً قوساً متعمماً بعمامة متردياً ببرد في هيئة غلام أعرابي راكباً على قعود بين جوالقين فيهما مقل ومساويك ونعال وما يهديه الأعرابي فعجب الناس من ذلك ونكروه فمضى الغلام حتى عبر الجسر بالرصافة فأهدى إليه ذلك فقبل المهدي الجوالقين وملأهما دراهم فأنصرف بين الجوالقين فعلم أنه ضرب من عبث الملوك . وذكر عن حماد التركي : قال كنت واقفاً على رأس المنصور فسمع جلبة في الدار فقال ما هذا يا حماد أنظر ، فذهبت فإذا خادم له قد جلس بين الجواري وهو يضرب لهن بالطنبور وهن يضحكن فجئت فأخبرته فقال وأي شيء الطنبور فوصفه له فقال له أصبت صفته فما يدريك أنت ما الطنبور فقال : رأيته بخراسان ثم قام حتى أشرف عليهم فلما بصروا به تفرقوا فأخذ الخادم الضارب وكسر الطنبور على رأسه وأخرجه من قصره .
• خامساً : اقتصاده .
وكان يعرف قيمة المال وحرمته، فكان حريصا على إنفاقه فيما ينفع الناس؛ ولذلك عني بالقليل منه كما عني بالكثير، ولم يتوان عن محاسبة عماله على المبلغ الزهيد، ولا يتردد في أن يرسل إليهم التوجيهات والتوصيات التي من شأنها أن تزيد في دخول الدولة، وكان يمقت أي لون من ألوان تضييع المال دون فائدة، حتى اتهمه المؤرخون بالبخل والحرص، ولم يكن كذلك فالمال العام له حرمته ويجب إنفاقه في مصارفه المستحقة؛ ولذلك لم يكن يغض الطرف عن عماله إذا شك في أماناتهم من الناحية المالية بوجه خاص لأنه كان يرى أن المحافظة على أموال الدولة الواجب الأول للحاكم.
ويذكر المسعودي أنه :" من كرمه أنه وصل عمومته وهم عشرة في يوم واحد بعشرة آلاف درهم ، وخلف أبو جعفر ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار وكان مع هذا يضن بماله ، وينظر فيما لا ينظر فيه العوام ، ووافق صاحب مطبخه على أن له الرؤوس والأكارع والجلود ، وعليه الحطب والتوابل .. " .
الخاتمة :
من خلال ماسبق أرجو أن أكون قد عرضت في عُجالة بعضاً من جوانب حياة هذا الرجل الذي يعد من عظماء رجال الدولة الإسلامية ، فإذا وضعنا أبا جعفر في إطار العصر الحديث ومفاهيمه ، ونظرنا إليه بين الواقعية والمثالية ، نستطيع أن بلمح زوايا متعددة لشخصية فذة بين عُظماء التاريخ .
لم يكن المنصور وحشاً في صورة إنسان ، ولكنه في سبيل المصلحة العامة أحسن من حيث أساء ، وفتح من شخصيته الفريدة منافذ لدولة تُعد بحق أنضر وأزهى دولة إسلامية .
والخصومة في سبيل الرفعة لا تعرف المُهادنة والاستسلام ، فهي إمّا انتصار أو فناء ، وبمعنى أوضح صراع الحياة والموت وتنازع البقاء . ولقد خيم على الدولة جو قاتم من الإرهاب والفزع ، بعثه التماع السيوف من كل صوب ، ومتى امتشقت السيوف بطل الكلام وأخرست الألسنة .
وهكذا تمكن المنصور بمكره ودهائه ، وحسن سياسته وتدبيره من القضاء على كل ما يهدد دولته الناشئة دون هوادة . فكان بحق المؤسس الفعلي للدولة العباسية وهو الذي أرسى دعائم إحدى أعظم الخلافات الإسلامية .
ثبت المصادر والمراجع
أولاً : المصادر :
• أبن الأثير : الكامل في التاريخ ( دار بيروت للطباعة والنشر – 1982 ) .
• ابن خلكان ( أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد ) ت 681هـ : وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، تحقيق / إحسان عباس ( دار صادر -بيروت – لبنان - 1979 )
• الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ( مطبعة السعادة- القاهرة- 1349هـ =1931م ).
• السيوطي ( الإمام جلال الدين ) : تاريخ الخلفاء ، حققه وقدم له : الشيخ قاسم الشماعي ، والشيخ محمد العثماني ، ط1 ( دار القلم بيروت –1986م ) .
• الطبري ( أبي جعفر محمد بن جرير ) : تاريخ الرسل والملوك ( مكتبة الخياط – بيروت – د. ت. ) .
• المسعودي ( أبي الحسن بن علي بن الحسن ، المتوفى 346هـ ) : مروج الذهب ومعادن الجوهر ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد ( دار المعرفة - بيروت - لبنان ) .
ثانياً : المراجع العربية :
• أحمد عبد البديع مدكور : وزراء بني العباس ، سلسلة الثقافة ، العدد 128 ( دار القرآن – الكويت – 1417 ) .
• أمير العرنوس : شخصيات من تاريخ العباسيين ( مكتبة أقرأ – الدمام – 1421 )
• حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي ( مكتبة النهضة المصرية- القاهرة- 1948م)
• د/ حسن الباشا : المدخل إلى الآثار الإسلامية ، ص96 ( دار النهضة العربية – القاهرة – 1998 )
• د/ حسين عطوان : الدعوة العباسية تاريخ وتطور ( دار الجبل- بيروت – د.ت. )
• سليمان إبراهيم العسكري : خلفاء بغداد ، كتاب العربي ، عدد 85 ، ط1 ( مكتبة الكويت الوطنية – أكتوبر 2004 ) .
• شاكر مصطفى: دولة بني العباس ، ط1 ( وكالة المطبوعات- الكويت- 1973).
• د/ عادل البهنسي : الجيش الإسلامي على مر العصور ، السلسلة الفكرية ( دار الكتب العلمية – بيروت – 1992 ) .
• د/ عبد السلام رستم : أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي دراسة وتحليل ( دار المعارف – مصر – 1965 ) .
• د/ عبد المجيد أبو الفتوح البدوي : الخلافة العباسية ( كلية الآداب- جامعة المنصورة)
• د/ عبد المجيد أبو الفتوح بدوي : التاريخ السياسي والحضاري للخلافة العباسية ،
( مكتبة حمدي – دمياط الجديدة – د. ت. ) .
• علي أدهم : أبو جعفر المنصور ( دار الكاتب العربي للطباعة والنشر- القاهرة- 1969م ) .
• د/ علي حبيبة : العباسيون في التاريخ ( مكتبة الشباب – مصر- 1979 ) .
• د/ كمال الدين سامح : العمارة الإسلامية في صدر الإسلام ( دار المعارف – مصر – 1989 ) .
• محمد الخضري بك : الدولة العباسية ، تحقيق : محمد العثماني ، ط1 ( دار القلم – بيروت – 1986 ) .
• د/ محمد هاشم أبو طربوش : العمارة الإسلامية في العصر العباسي ، ( كلية الآداب – جامعة المنصورة
زكريا محمد وحيد- عدد المساهمات : 1167
تاريخ التسجيل : 16/10/2010
العمر : 74
الموقع : العباسيه القاهره
مواضيع مماثلة
» السفاح الخليفة أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي
» أبو المنصور الفضل المسترشد بالله
» ابوجعفر المنصور
» سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز
» مسلسل "أبو جعفر المنصور
» أبو المنصور الفضل المسترشد بالله
» ابوجعفر المنصور
» سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز
» مسلسل "أبو جعفر المنصور
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى