منتديات الساده الأشــــراف العباســيين
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز

اذهب الى الأسفل

سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز Empty سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز

مُساهمة  زكريا محمد وحيد الإثنين ديسمبر 20, 2010 6:26 pm

سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم اخوانى اعضاء المنتدى يسرنى ان اعرض سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز المرجع

( عمر بن عبد العزيز بقلم الدكتور الشيخ الليبى القدير على محمد الصلابى)


عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
المبحث الأول : من الميلاد إلى خلافته:
أولاً : اسمه ولقبه وكنيته وأسرته:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية ، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين ، وكان حسن الأخلاق والخُلق، كامل العقل، حسن السمت، جيِّد السياسة حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاها منيباً، قانتا لله حنيفاً، زاهداً مع الخلافة ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حقٍّ، فمازالوا به حتى سقوه السم فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين ، وكان رحمه الله فصيحاً مُفوَّهاً .

1 ـ والده: هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً بقي أمير لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة ديناراً من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح ، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي حفيده أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وقيل اسمها ليلى ، كما أن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه على تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مرة في الشام أن يبعث إليه ما سمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده ، وقد كان والد عمر بن عبد العزيز ذا نفس تواقة إلى معالي الأمور سواء قبل ولايته مصر أو بعدها فحين دخل مصر أيام شبابه تاقت نفسه إليها وتمنى ولايته فنالها ، ثم تاقت إلى الجود فصار أجود أمراء بني أمية وأسخاهم ، فكانت له ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره وكانت له مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل ، ومن جوده كان يقول: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده فيده عندي أعظم من يدي عنده . وقد أكثر المؤرخين من الثناء عليه لجوده وهذا الجود كان ممتزجاً باليقين بأن الله سبحانه وتعالى يخلف على من يرزقه فيقول: عجب لمؤمن يؤمن أن الله يرزقه ويخلف عليه كيف يحبس ماله عن عظيم أجر وحسن ثناء، وكان ذا خشية من الله، ونستقرأ هذه الخشية من قوله حين أدركه الموت: وددت أني لم أكن شيئاً مذكوراً، ولوددت أني أكون هذا الماء الجاري أو نبته بأرض الحجاز .


2 ـ أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها، عاصم بن عمر بن الخطاب، الفقيه، الشريف أبو عمرو القرشي العدوي ولد في أيام النبوة وحدّث عن أبيه وأمه هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّة، وكان طويلاً جسيماً وكان من نبلاء الرجال، ديِّنا، خيِّراً، صالحاً، وكان بليغاً، فصيحاً، شاعراً، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأُُمِّه، مات سنة سبعين، فرثاه ابن عمر أخوه
فليت المنايا كُنَّ خلَّفن عاصماً
فعشنا جميعاً أو ذهبنا بنا معاً

وأما جدته لأمه فقد كان لها موقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يَعُسُّ ، بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذ قيه بالماء فقالت لها: يا أمتاه أو ما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم قال: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر منادياً ، فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت: لها يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع كل ذلك، فقال : يا أسلم عَلِّم الباب وأعرف الموضع، ثم مضى في عسه، فلما أصبحا قال: يا أسلم أمض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها وإذا تيك أمها وإذا ليس بها رجل، فأتيت عمر أخبرته، فدعا عمر ولده، فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه.. فقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتاًَ وولدت البنت عمر بن عبد العزيز ، ويذكر أن عمر بن الخطاب رأى ذات ليلة رؤيا، ويقول: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً ، وكان عبد الله بن عمر يقول أن آل الخطاب يرون أن بلال بن عبد الله بوجهه شامة فحسبوه المبشر الموعود حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز .


3 ـ ولادته ومكانها : 61هـ، المدينة:
اختلف المؤرخون في سنة ولادته والراجح أنه ولد عام 61هـ وهو قول أكثر المؤرخين ولأنه يؤيد ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة حيث توفي عام 101هـ ، وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر وهذا القول ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز ولم يعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة ، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد .


4 ـ أشج بني أمية: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يلقب بالأشج، وكان يقال له أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز عندما كان صغيراً دخل إلى اصطبل أبيه عندما كان والياً على مصر ليرى الخيل فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد ، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً . وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهوراً عند الناس بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً


5 ـ إخوته: كان لعبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز عشرة من الولد وهم: عمر وأبو بكر ومحمد وعاصم وهؤلاء أمهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وله من غيرها ستة وهم: الأصبغ وسهل وسهيل وأم الحكم وزبّان وأم البنين ، وعاصم هو من تكنى به والدته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب فكنيتها أم عاصم .


6 ـ أولاده: كان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله أربعة عشرة ذكراً منـهم: عبد الملك وعبد العزيز وعبد الله وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وبكر والوليد وموسى وعاصم ويزيد وزبان وعبد الله وبنات ثلاثة أمينة وأم عمار وأم عبد الله وقد اختلفت الروايات عن عدد أولاد وبنات عمر بن عبد العزيز فبعض الروايات تذكر أنهم أربعة عشر ذكراً كما ذكره ابن قتيبة وبعض الروايات تذكر أن عدد الذكور اثنا عشر وعدد الإناث ست كما ذكره ابن الجوزي والمتفق عليه من الذكور اثنا عشر، وحينما توفي عمر بن عبد العزيز لم يترك لأولاده مالاً إلا الشيء اليسير أنه أصاب الذكر من أولاده من التركة تسعة عشر درهماً فقط، بينما أصاب الذكر من أولاد هشام بن عبد الملك ألف ألف (مليون) وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله في يوم واحد، وقد رأى بعض الناس رجلاً من أولاد هشام يتصدق عليه . فسبحان الله رب العالمين..


7 ـ زوجاته: نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها، وتأثر بعلمائها وأكب على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، ومازال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه، ابنته فاطمة بنت عبد الملك ، وهي امرأة صالحة تأثرت بعمر بن عبد العزيز وآثرت ما عند الله على متاع الدنيا وهي التي قال فيها الشاعر:

بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخلائف والخليفة زوجها

ومعنى هذا البيت أنها بنت الخليفة عبد الملك بن مروان والخليفة جدها مروان بن الحكم، وأخت الخلائف فهي أخت الخلفاء الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، والخليفة زوجها فهو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حتى قيل عنها: لا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها . وقد ولدت لعمر بن عبد العزيز إسحاق ويعقوب وموسى، ومن زوجاته لميس بنت علي بن الحارث وقد ولدت له عبد الله وبكر وأم عمار، ومن زوجاته أم عثمان بنت شعيب بن زيان، وقد ولدت له إبراهيم. وأما أولاده: عبد الملك والوليد وعاصم ويزيد وعبد الله وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله فأمهم: أم ولد .


8 ـ صفاته الخلقية: كان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أسمر رقيق الوجه أحسنه، نحيف الجسم حسن اللحية، غائر العينين بجبهته أثر نفحة دابة وقد خطه الشيب ، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللحية .

ثانياً : العوامل التي أثرت في تكوين شخصية عمر بن عبد العزيز:
1 ـ الواقع الأسري:
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمـه فيقول: يا أمـه أنا أحب أن أكون مثل خالي ـ يريد عبد الله بن عمر ـ فتؤفف به ثم تقول له: أغرب أنت تكون مثل خالك وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أمير عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا أبنة أخي هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا ـ يريد عمر ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، قال لها: وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلماً ، وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة .



2 ـ إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم:
فقد رزق منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب ، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ. وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم في نظرته لله عز وجل والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت وكان يبكي لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت. فبكت أمه حين بلغها ذلك ، وقد عاش طيلة حياته مع كتاب الله عز وجل متدبراً ومنفذاً لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم:

أ ـ عن ابن أبي ذيب: قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: ((وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)) (الفرقان ، الآية : 13). فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه فدخل بيته، وتفرق الناس . ومفهوم هذه الآية: إذا ألقي هؤلاء المكذبون بالساعة من النار مكاناً ضيقاً، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ((دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)). والثبور في هذا الموضوع دعا هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا والإيمان بما جاء به نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة .


ب ـ وعن أبي مودود قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قرأ ذات يوم: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا)) ( يونس ، الآية : 61). فبكى بكاءً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة ـ زوجته ـ فجعلت تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهم، فجاء عبد الملك، فدخل عليهم وهم على تلك الحال يبكون فقال: يا أبه، ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار . ومعنى الآية: إن الله تعالى يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (الأنعام ، الآية 59) . فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة في قوله: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)) (الأنعام ، الآية 38)، وقال تعالى : ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) (هو ، الآية :6)، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)) (الشعراء ، الآيات : 217 ، 219)، ولهذا قال تعالى: إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون


ج ـ وعن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنزي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة ووراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر، فخطب فقرأ: ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))، فقال: وما شأن الشمس؟ ((وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ))، حتى انتهى إلى ((وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)) (التكوير: الآيتان: 11 ، 12) فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه . وهذه السورة جاء فيها الأوصاف التي وصف بها يوم القيامة من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليتدبر سورة((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)) . بل ثبت مرفوعاً من حديث أبن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)) .


س ـ وعن ميمون بن مهران قال: قرأ عمر بن عبد العزيز ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) فبكى ثم قال: ((حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) ما أرى المقابر إلا زيارة، ولابد لمن يزورها أن يرجع إلى جنة أو إلى النار ، هذه بعض المواقف التي تبين تأثير القرآن الكريم على شخصية عمر بن عبد العزيز.


3 ـ الواقع الاجتماعي: إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة لا زالوا بالمدينة، فقد حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّ بأنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى ، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية ومعان إيمانية، وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع قوة التأثير في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية .


4 ـ تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:

اختار عبد العزيز والد عمر صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة فقال صالح بن كيسان ما يشغلك؟ قال: كانت مرجّلتي تسكن شعري، فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه ، وحرص على التشبه بصلاة رسول الله أشد الحرص، فكان يتم الركوع والسجود ويخفِّف القيام، والقعود وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً ، ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام ، ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: لمجلس من الأعمى: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار ، وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير، لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا ، وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة ، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم ، وكان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات:
بسم الذي أنزلت مـن عنده السور
والحمـد لله أمّا بعـد يا عمر
إن كنت تعلم مـا تأتي ومـا تذر
فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المحتوم وأرض به
وإن أتاك بمـا لا تشتهي القدر
فما صـفا لامرئ عيش يُسرٌّ بـه
إلا سيتبع يومـاً صفوه كدر

وقد توفي هذا العالم سنة 98هـ، وقيل 99هـ .
ومن شيوخ عمر سعيد بن المسيب وقد تحدثت عن سيرته في عهد عبد الملك بن مروان وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر ، ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به وكان سالم أشبه ولد عبد الله به ، وكان ابن عمر يحب ابنه سالم وكان يلام في ذلك فكان يقول:
يلومنني في سالم وألومهم
وجلدة بين العين والأنف سالم


كانت أمه أم ولد وقال فيه ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغُرُّ السادة علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة علماً وتقىً وعبادة وورعاً، فرعب الناس حينئذ في السراري ، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين، في الزهد والفضل والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين، ويشترى الشمال ليحملها. قال: فقال سليمان بن عبد الملك لسالم ورآه حسن السّحنة. أي شيء تأكل؟ قال: الخبر والزَّيت، وإذا وجدت اللحم، أكلته. فقال له عمر: أو تشتهيه؟ قال: إذ لم أشتهه تركته حتى أشتهيه ، وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّه، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه، يدخل فيها على أمير المؤمنين؟ وعلى المتكلم ثياب سريَّة، لها قيمة، فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثياباً هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك وتربي وتعلم عمر بن عبد العزيز على يدي كثير من العلماء والفقهاء وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، وثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين ، فقد نهل من علمهم وتأدب بأدبهم ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية المتينة في أخلاقه وتصرفاته فامتاز بصلابة الشخصية والجدية في معالجة الأمور والحزم وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح ، هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته ومن الدروس المستفاده هو أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة وهي الاهتمام بأولاد الأمراء والحكام وأهل الجاه والمال ففي صلاحهم خير عظيم للأمة الإسلامية.

: مكانته العلمية:

اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين: مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام ، وقال فيه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمَّنا منه ، وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلمَّ العلماء ، قال فيه الذهبي: كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري ، وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله ومن ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما وهي رسالة قصيرة وفيها يحتج الليث ـ مراراً ـ بصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله ، ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل وجعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال القرشي في الجواهر المضيئة: فائدة يقول: أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: وهو قول عمر الصغير. يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور ، ويكثر الشافعية من ذكره في كتبهم ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في تهذيب الأسماء واللغات وقال في أولها: تكرر في المختصر والمهذب . وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في ((الموطأ)) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه ، وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثير، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز وكفاه هذا ، وكفانا قول الإمام أحمد أيضاً: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله ، ومن أراد أن يتبحر في علم عمر بن عبد العزيز ويعرف مكانته العلمية، فليراجع الكتب الآتية: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة للأستاذ حياة محمد جبر والكتاب في مجلدين، وهي رسالة علمية وكذلك فقه عمر بن عبد العزيز للدكتور محمد سعد شقير في مجلدين وهي رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه، وموسوعة فقه عمر بن عبد العزيز لمحمد رواس قلعجي وسوف نرى في بحثنا فقه عمر بن عبد العزيز بإذن الله تعالى في العقائد والعبادات والسياسة الشرعية، وإدارة الدولة، والنظم المالية والقضائية والدعوية وتقيده بالكتاب والسنة والخلفاء الراشدين في خطواته وسكناته.

رابعاً : عمر في عهد الوليد بن عبد الملك:


يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء وكان لهم أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه وقد جاء فيها: أما بعد: فإنك راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسئول عن رعيته . ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)) (النساء ، الآية : 87) .
ويقال بأن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصره لكي يتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر ، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصره، وهناك من رجح القول وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزناً عظيماً وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: يا مسلمة إني حضرت اباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرايته قد أفضى إلى أمر من أمر الله، راعني وهالني فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت وقد اجتهدت في ذلك
.
1 ـ ولايته على المدينة:


في ربيع الأول من عام 87هـ ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ وبذلك صار والياً على الحجاز كلها: واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
الشرط الأول:أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة. الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة وفرح الناس به فرحاً شديد .


2 ـ مجلس شورى عمر بن عبد العزيز: مجلس فقهاء المدينة العشرة:

كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة، فعند ما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى، دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة ابن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجه بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني . لقد عرفت أن عمر بن الخطاب كان يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز، وهو سبط عمر بن الخطاب، فقد أحدث مجلساً، حدّد صلاحياته بأمرين:
أ ـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً إلا برأيهم. وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه ((مجلس العشرة)).
ب ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق. ونلاحظ كذلك على هذا التدبير قد تضمن أمرين:
أحدهما: أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء، فماندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.
الثاني: إن عمر افترض ـ غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: ((أو برأي من حضر منكم)) ، إن هذا المجلس كان يستشار في جميع الأمور دون استثناء ، ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن للمصالح وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يختصر في شوراه على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب، والزهري، وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد، وفي المدينة أظهر عمر عبد العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم، وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيِّب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أمير ولا خليفة فأخطأ الرسول فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر قال له: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ أنما أرسلناه ليسألك ، وفي إمارته على المدينة المنورة وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من والوليد بن عبد الملك، حتى جعله مائتي ذراعاً في مائتي ذراع، زخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع إنه رحمه الله تعالى كان يكره زخرفة المساجد ، ويتضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قرارات ممن هو أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من وجوه أخرى. وفي أمارته على المدينة في سنة 91هـ حج الخليفة الوليد بن عبد الملك فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة .


الحادث المؤسف في ولاية عمر


قال العلماء في السير: كان خبيب بن عبد الله بن الزبير قد حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً وهو حديث ضعيف فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ـ واليه على المدينة ـ يأمره بجلده مائة سوط وبحبسه فجلده عمر مائة سوط، وبرد له ماءً في جرّة ثم صبه عليه في غداة باردة فكزّ ، فمات فيها. وكان عمر قد أخرجه من السجن حين اشتد وجعه، وندم على ما صنع منه وحزن عمر على موت خبيب، فقد روى مصعب بن عبد الله عن مصعب بن عثمان أنهم نقلوا خبيباً إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير ببقيع الزبير واجتمعوا عنده حتى مات، فبينما هم جلوس، إذ جاءهم الماجشون يستأذن عليهم وخبيب مسجى بثوبه. وكان الماجشون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة. فقال عبد الله بن عروة: ائذنوا له. فلما دخل قال: كأن صاحبكم في مرية من موته اكشفوا له عنه، فكشفوا عنه، فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان، فقرعت الباب ودخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض قائماً وقاعداً فقال لي: ما وراءك فقلت: مات الرجل. فسقط على الأرض فزعاً ثم رفع رأسه يسترجع فلم يزل يعرف فيه حتى مات. واستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية. وكان كلما قيل له: إنك قد صنعت كذا فأبشر فيقول: كيف بخبيب ، ولم يذكرها ويتصورها أمام عينه حتى مات ، ومن الأدلة على صلاح عمر بن عبد العزيز وقت ولايته على المدينة غير ما ذكر: ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته ، وحدّث ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود بالشيء قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة .


4 ـ عظة مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز له:


حبس عمر رجلاً بالمدينة، وجاوز عمر في حبسه القدر الذي يستحقه فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال له عمر: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مرّ، فقال: مزاحم: مغضباً. يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، وفي صبيحتها تقوم الساعة يا عمر: ولقد كدت أنسى أسمك مما اسمع: قال الأمير قال الأمير. قال الأمير، قال عمر: إن أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء . وهذه القصة تبين لنا أهمية الصديق الصالح المخلص الذي يذكرك بالله حين الغفلة .



5 ـ بين عمر بن عبد العزيز والحجّاج في خلافة الوليد:


ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة كما مرّ ذكره ولكن ذكر غيره أنه عزل عنها، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب رحمه الله تعالى إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه، لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك فتنحّ عن المدينة ، وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن: فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز . وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً وكان يظن بأنه سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به .


6 ـ عودة عمر بن عبد العزيز إلى دمشق:


خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم وقال: يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة ، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد . وقال مزاحم: ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت فإذا القمر في الدبران ـ كأنه تشاءم من ذلك ـ فقال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران. يا مزاحم: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكن نخرج بالله الواحد القهار ، وسار عمر حتى وصل السويداء، وكان له فيها بيت ومزرعة، فنزل فيها فأقام مدة يرقب الأوضاع عن بعد، ثم رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون إقامته في دمشق، بجوار الخليفة، لعله بذلك يستطيع أن يمنع ظلماً، أو يشارك في إحقاق حق، فانتقل إلى دمشق فأقام بها ، ولم يكن عمر بن عبد العزيز على وفاق تام مع الخليفة الوليد بن عبد الملك، ولذلك فإن إقامته في دمشق بجوار الوليد لم تخل من مشاكل، فالوليد يعتمد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة يهمهم إخضاع الناس بالقوة، وإن رافق ذلك كثير من الظلم، بينما يرى عمر إن إقامة العدل بين الناس كفيل باستقرار الملك وإئتمارهم بأمر السلطان، فكان رحمه الله يقول: الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر،.. امتلأت والله الأرض جوراً .



7 ـ نصح عمر للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل:

سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم فمكث أياماً ثم قال: يا غلام من بالباب؟ فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر: إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك. عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه. وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟ أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟ فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره. ثم أن الحجّاج أرسل إلى إعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جاف من بكر بن وائل، ثم قال له الحجّاج ما تقول في معاوية؟ فنال منه. قال: ما تقول في يزيد؟ فسبه. قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظلمه. قال: فما تقول في الوليد؟ فقال: أجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك. فسكت الحجّاج وافترصها منه ، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني واحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه. فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟ قال ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان أضرب عنقه فضرب عنقه، ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام أردد عليّ عمر، فرده عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟ أصبنا أم أخطأنا؟ فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته، فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك؟ قال لعمري ما استحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك ، وهكذا احتار الحجّاج على الوليد ليصرفه على الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل

.
8 ـ رأي عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج:


فبالإضافة إلى الموقف الذي مرّ ذكره آنفاً ـ في شأن الحروري الذي بعث به الحجّاج ـ وردت روايات توضح الموقف نفسه فعن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن الوليد أرسل إليه بالظهيرة، فوجده قاطباً بين عينيه، قال: فجلست وليس عنده إلا ابن الريان، قائم بسيفه، فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟ أترى أن يقتل؟ فسكت، فانتهرني، وقال: مالك؟ فسكت، فعاد لمثلها، فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنه سب الخلفاء قلت: فإني أرى أن ينكل فرفع رأسه إلى ابن الريان، فقال الوليد: إنه فيهم لتائه.
9 ـ نصحه الوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه"
ومن آخر مواقفه التي ذكرت لعمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك نصحه للوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه عبد العزيز من بعده، فوقف عمر من ذلك موقفاً حازماً حيث لم يستجب لأمر الوليد في ذلك وقال حين أراده على ذلك: يا أمير المؤمنين إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك: فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار وطين عليه الباب حتى تدخلت أم البنين أخته وزوجة الوليد ففتح عنه بعد ثلاث وقد ذبل ومالت عنقه .[/size]
يتبع


عدل سابقا من قبل زكريا محمد وحيد في الإثنين ديسمبر 20, 2010 6:34 pm عدل 1 مرات
زكريا محمد وحيد
زكريا محمد وحيد

عدد المساهمات : 1167
تاريخ التسجيل : 16/10/2010
العمر : 73
الموقع : العباسيه القاهره

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز Empty رد: سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز

مُساهمة  زكريا محمد وحيد الإثنين ديسمبر 20, 2010 6:30 pm

رد: سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز

خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:


في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرب عمر بن عبد العزيز وأفسح له المجال واسعاً حيث قال: يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره وكان سليمان يرى أنه محتاج له في صغيره وكبيره، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني . وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي .


1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:

والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:

أ ـ شخصية سليمان بن عبد الملك:
حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه .


ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان وعمر وأعطاه الخلافة بعده

.
2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:

فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة، خالد القسري ووالي المدينة عثمان بن حيان ، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ أن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها .


3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:

كلمّ عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك: إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك، فتركه يسيراً ثم راجعه فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر فقال سليمان لغلامه: ائتني بكتاب عبد الملك، فقال له عمر: أبا المصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال أيوب بن سليمان: ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تضرب فيه عنقه، فقال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر: إن كان جهل فما حلمُنا عنه . فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا ينقض ولا يغيّر هو كتاب الله تعالى وحده، وهكذا يصل الطغيان بضحاياه إلى تعظيم شأن الآباء والأجداد الذين ورّثوا ذلك المجد الزائل لأبنائهم إلى الحد الذي يعتبرون فيه قضاءهم شرعاً نافذاً من غير نظر في موافقته لحكم الإسلام أو مخالفته، وموقف يذكر لسليمان حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له
.
4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:

قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز: كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟ قال: رأيتك زدت أهل الغنى غنى وتركت أهل الفقر بفقرهم . فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق ـ يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه وحرم منه أهله ، فقد بين عمر رحمه الله أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.


5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:

خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر: إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟ فقال سليمان: خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها، فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم ، ويظهر عند عمر وضوح فقه ترتيب الأولويات فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.


6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً:

أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان ما تقول يا عمر في هذا؟ قال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسئول عن ذلك كله. فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة ، فقال له سليمان: ما تقول في هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال: كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يذهب بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال عمر: أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه

.
7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة:

لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر: هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسئول عنهم غداً وفي رواية: وهم خصماؤك يوم القيامة فبكى سليمان وقال: بالله استعين

.
8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:

كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً.. فحبس عمر الرسول وقال: لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن لعلي أطيب نفسه فيترك هذا الكتاب. فجلس الرسول فمرض سليمان، فقال للرسول لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان وأفضى الأمر إلى عمر دعا بالكتاب ومزقه . وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه ويشاركه مسئولياته ، ويرى الدكتور يوسف العش أن سياسة عمر بن عبد العزيز ومنطلقاتها بدأت منذ بداية خلافة سليمان، نعم أن سليمان كان يشتط حيناً في سياسته، فيتخذ تدابير لعل عمر لا يقرها، لكن عمر بن عبد العزيز كان بالرغم من ذلك راجح القوة في خلافته وسياسة عمر لم تتغير، فهو في دمشق مثله في المدينة، على أنه في دمشق يستطيع أن يفعل أكثر من المدينة، والأمر المهم عنده هو منع الجور ، والظلم والعسف، ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز تعامل مع سنة التدرج وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رد المظالم ومنعها وعندما وصل للخلافة إزداد في إحقاق العدل ومحاربة الظلم لأن الصلاحيات المتاحة كانت أكبر، فهو نصح عمه عبد الملك وذكره بالآخرة مع جبروته وظلمه، ولم يتقاعس في عهد ابن عمه الوليد، وتقدم خطوات ووفق حسب الإمكان في عهد سليمان وأتيحت له الفرصة في خلافته وبالتالي لا نقول أن ما حدث لعمر على مستواه الشخصي انقلاب وإنما الانقلاب في توظيف الدولة لخدمة الشريعة في كافة شؤون الحياة ولو كان على حساب العائلة الحاكمة، التي كانت لها مخصصاتها وصلاحياتها والتي اعتبرها عمر بن عبد العزيز حقوق للأمة يجب ردها إلى بيت المال أو إلى أصحابها الأصليين.


سادساً : خلافة عمر بن عبد العزيز


ومن حسنات سليمان عبد الملك قبوله لي نصيحة الفقيه العالم رجاء بن حيوة الكندي الذي اقترح على سليمان في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز، وكانت وصية لم يكن للشيطان فيها نصيب ، قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: (أؤمن بالله مخلصاً) ، وتعددت الروايات في قصة استخلاف سليمان لعمر ، وقد ذكرت بعضها في حديثي عن عهد سليمان، ومن الروايات أيضاً ما ذكره ابن سعد في طبقاته، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباُ خضر من خز ونظر في المرآة فقال: أنا والله الملك الشاب فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب، وهو غلام لم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح، فقال سليمان: كتاب استخير الله فيه، وانظر، ولم أعزم عليه، فمكث يوماً أو يومين، ثم خرقه ثم دعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت. قال: يا رجاء فمن ترى؟ قال: فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين وأنا أريد أن أنظر من يذكر. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً. فقال: هو على ذلك والله لئن وليته، ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده ـ ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم ـ قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنه ويرضون به، قلت : رأيك قال: فكتب بيده بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم. وختم الكتاب فأرسل إلى كعب بن حامد صاحب الشرطة أن مرّ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب، فجمعهم، ثم قال سليمان: لرجاء بعد اجتماعهم: أذهب بكتاب هذا إليهم، فاخبرهم، إنه كتابي ومرهم فليبايعوا من وليت. قال: ففعل رجاء، فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: سمعنا وأطعنا لمن فيه، وقالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين، قال نعم. فدخلوا فقال لهم سليمان: هذا الكتاب ـ وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة ـ هذا عهدي، فاسمعوا، وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب. قال فبايعوا رجلاً. قال: ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به حرمة ومودة، وكان بي براً ملطفاً، فأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئاً، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي، ألا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر الساعة. فقال رجاء: لا والله حرفاً واحداً. قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر، فأعلمني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، ولا نحي عنه هذا الأمر، فأعلمني فلك الله لا أذكر اسمك أبداً. قال رجاء: فأبيت وقلت لا والله لا أخبرك حرفاً واحداً مما أسر إلي.، فانصرف هشام..، وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى، وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ فوالله إني لعين بني عبد الملك قال رجاء: ودخلت على سليمان بن عبد الملك، فإذا هو يموت. قال: فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت، حرفته إلى القبلة، فجعل يقول وهو يفأق: لم يأت ذلك بعد يا رجاء. حتى فعلت ذلك مرتين. فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء، إن كنت تريد شيئاً أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال فحرفته، ومات، فلما أغمضته سجيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب، وأرسلت إلى زوجته تنظر إليه، كيف أصبح فقلت: نام وقد تغطى، فنظر الرسول إليه، مغطى بالقطيفة فرجع، فأخبرها، فقبلت ذلك وظنت أنه نائم. قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحداً. قال: فخرجت، فأرسلت إلى كعب بن حامد العنسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: بايعوا، قالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به، ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان، رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت قوموا إلى صحابكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون وقرأت عليهم الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: لا نبايعه أبداً. قال قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع. فقام يجر رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع، لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطاه فلما انتهى هشام إلى عمر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، قال فقال عمر: نعم، فإنا لله وأنا إليه راجعون، حين صار إلي ـ لكراهتي له . وقال أبو الحسن الندوي على موقف رجاء بن حيوة: وكان لرجاء مأثرة لا ينساها الإسلام، ولا أعرف رجلاً من ندماء الملوك ورجالهم انتفع بقربه ومنزلته عند الملوك مثل انتفاعه، وانتهز الفرصة مثل انتهازه وأسدى للإسلام خدمة مثله ، فرحم الله رجاء بن حيوة فقد رسم منهجاً لمن يجلس مع الملوك من العلماء كيف يعز الإسلام ويذكر الخلفاء بالله وينتهز الفرص المناسبة لخدمة دين الله.


1 ـ منهج عمر في إدارة الدولة من خلال خطبته الأولى:


صعد عمر المنبر وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه: أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة. قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فوّل أمرنا باليمن والبركة وهنا شعر أنه لا مفر من تحمل مسؤولية الخلافة فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة : أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً. أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، و إلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية ولا يعترض فيما لا يعنيه. أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا الآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر ديناه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات... وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقا. ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال ، ثم نزل. وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين ، ويظهر لنا من هذه الخطبة السياسية التي قرر عمر بن عبد العزيز أتباعها في الحكم وهي:


أ ـ الترامه بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع، والدين على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع بين من حيث تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.

ب ـ حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب:

1 ـ أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه، وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس، وينظر فيها.
2 ـ أن يعينه على الخير ما استطاع، أي أن علاقة هؤلاء به تقوم على أساس نزعة الخير يعين الخليفة عليه، وبالتالي يحذره من أي شر.
3 ـ فرض على من يقترب إليه فريضة أن يرشده، ويهديه إلى ما فيه خير الأمة، وخير الدين.
4 ـ نهى من يريد أن يتقرب إليه، عن أن يغتاب إليه أحد.
5 ـ أن لا يتدخل أي متقرب منه في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه عامة . لقد كان يدرك مدى تأثير البطانة والمقربين من الحاكم على الحاكم وعلى الرعية، وعلى أسلوب الحكم، فآثر أن ينبه الناس حتى يتركوه يحكم بما ارتضى في نطاق شرع الله، دون أن يبعدهم نهائياً لأنه أجاز لهؤلاء المقربين أن يدلوه على الخير، ويعينوه عليه، وأن ينقلوا إليه حاجة المحتاج .

ج ـ كما أنه حذر الناس من عواقب الدنيا لو أساؤوا فيها، وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم ويحذروا الموت، ويتعظوا به.


د ـ قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحداً باطلاً، ولا يمنع أحداً حقاً، وأنه أعطاهم حقاً عليه، وهو أن يطيعوه ما أطاع الله، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى. هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد، بعد بيعته فدولته قد حدّدها بالسير على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد آثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك ففصل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله وقد كانت هذه الكتب نوعين:
ـ كتب إلى العمال يبصرهم بما يجب عليهم أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي، والخاص، إزاء الرعية ـ وسوف نتحدث عن ذلك بإذن الله.


ـ وكتب إلى عماله التي حددت سياستهم، وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين، وغير المسلمين، ممن كانوا يسكنون دار الإسلام وعمر في هذه الكتب ـ كما سيظهر بإذن الله ـ تكلم عن موقفه كفقيه متبحر في أصول الدين ، وسيأتي الحديث عن منهجه من خلال أعماله.


2 ـ الحرص على العمل بالكتاب والسنة:

من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة ونشر العلم بين رعيته وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به ، فهو يرى أن من أهم واجباته تعريف رعيته بمبادئ دينهم وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال: في إحدى خطبه: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلأن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص . وقال أيضاً: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة يعيشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً. وفي موضع آخر قال: والله لولا أن أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقاً ، لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتفقيههم إلى مختلف أقاليم الدولة وفي حواضرها وبواديها، وأمر عماله على الأقاليم بحث العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث إلى عماله: ومر أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مجالسهم ، ومما كتب به إلى بعض عماله: أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت ، كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء ليتفرغوا لنشر العلم ، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس والبدو ، وذكر الذهبي أن عمر ندب يزيد بن أبي مالك ليفقه بني نمير ويقرئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن ، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها وسيأتي الحديث عنهم بإذن الله، ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولي القضاء وأسهم أكثرهم بالإضافة إلى نشر العلم في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله ، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس وتفصيلهم لأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه فيه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارج وغيرهم.

ـ الشورى في دولة عمر بن عبد العزيز:


قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) (الشورى / الآية : 38). وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) (آل عمران : الآية : 159). وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بتفعيل مبدأ الشورى في خلافته، ومن أقواله في الشورى: إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم ، وكان أول قرار اتخذه عمر بعدما ولي أمر المدينة للوليد بن عبد الملك، يتعلق بتطبيق مبدأ الشورى، وجعله أساساً في إمارته، حين دعا من فقهاء المدينة وكبار علمائها، وجعل منهم مجلساً استشارياً دائماً ـ كما مر معنا ـ حري بمن جعل الشورى أحد مبادئ إمارته حين كانت مسئوليته جزئية أن يطبقه وقت المسئولية الكاملة، والمهمة العظمى، ألا وهي ولاية أمر المسلمين كافة وقد تبين مبدأ الشورى من أول يوم في خلافته، وقال للناس: أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر، من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، (فاختاروا لأنفسكم) فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فول أمرنا باليمن والبركة ، وبذلك خرج عمر من مبدأ توريث الولاية الذي تبناه معظم خلفاء بني أمية إلى مبدأ الشورى والانتخاب، ولم يكتف عمر باختياره ومبايعة الحاضرين، بل يهمه رأي المسلمين في الأمصار الأخرى ومشورتهم، فقال في خطبته الأولى ـ عقب توليه الخلافة ـ:.. وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم.، وإن هم أبوا فلست لكم بوال، ثم نزل . وقد كتب إلى الأمصار الإسلامية فبايعت كلها، وممن كتب لهم يزيد بن المهلب يطلب إليه البيعة بعد أن أوضح له أنه في الخلافة ليس براغب، فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا . وبذلك يتضح أنه لم يكتف بمشورة من حوله بل امتد الأمر إلى جميع أمصار المسلمين ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي:


أ ـ أن عمر كشف النقاب عن عدم موافقة الأصول الشرعية في تولي معظم الخلفاء الأمويين.


ب ـ حرص عمر على تطبيق الشورى في أمر يخصه هو، ألا وهو توليه الخلافة.


جـ ـ أن من طبق مبدأ الشورى في أمر مثل تولي الخلافة حري بتطبيقه فيما سواه.

وكان عمر يستشير العلماء، ويطلب نصحهم في كثير من الأمور أمثال سالم بن عبد الله،

ومحمد بن كعب القرطبي، ورجاء بن حيوة وغيرهم


، فقال: إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليّ . كما كان يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال ، وقد حرص عمر على إصلاح بطانته لما تولى الخلافة، فقرب إلى مجلسه العلماء وأهل الصلاح، وأقصى عنه أهل المصالح الدنيوية والمنافع الخاصة ولم يكتف ـ رحمه الله ـ بانتقاء بطانته، بل كان زيادة على ذلك يوصيهم ويحثهم على تقويمه، فقال لعمر بن مهاجر: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني ثم قل يا عمر ما تصنع ؟، وقد كان لهذا المسلك أثر في تصحيح سياسته التجديدية ونجاحها، حيث كان لبطانته أثر في شد أزره، وسداد رأيه وصواب قراره ، فمن أسباب نجاح عمر بن عبد العزيز تقريبه لأهل العلم والصلاح وانشراح صدره لهم ومشاركتهم معه لتحمل المسئولية فنتج عن ذلك حصول الخير العميم للإسلام والمسلمين.


4 ـ العدل في دولة عمر بن عبد العزيز:


قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)) (النحل ، الآية : 90) وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبِيراً)) (النساء ، الآية : 135) وللعدل صورتان: صورة سلبية بمنع الظلم وإزالته عن المظلوم، أي بمنع انتهاك حقوق الناس المتعلقة بأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإزالة آثار التعدي الذي يقع عليهم وإعادة حقوقهم إليهم ومعاقبة المعتدي عليها فيما يستوجب العقوبة .وصورة إيجابية: وتتعلق أكثر ما تتعلق بالدولة، وقيامها بحق أفراد الشعب في كفالة حرياتهم وحياتهم المعاشية، حتى لا يكون فيهم عاجز متروك، ولا ضعيف مهمل، ولا فقير بائس، ولا خائف مهدد، وهذه الأمور كلها من واجبات الحاكم في الإسلام . وقد قام أمير المؤمنين عمر بهذا الركن العظيم والمبدأ الخطير على أتم وجه وكان يرى أن المسئولية والسلطة في نظر عمر هي القيام بحقوق الناس والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة ، وقد أحب الإستزاده من فهم صفات الإمام العادل وما يجب أن يقوم به ليتصف بهذه الخصلة الفريدة الحميدة فكتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن: الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد، وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله .


أ ـ سياسته في رد المظالم:


ـ أمير المؤمنين يبدأ بنفسه: تنفيذاً لما أراده عمر من رد المظالم مهما كان صغيراً أو كبيراً بدأ بنفسه، روى ابن سعد: أنه لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي . وهذا الفعل جعله قدوة للآخرين، فنظر إلى ما في يديه من أرض، أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم. فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه . وكان ذلك لإصراره على قطع كل شك بيقين، وحتى يطمئن إلى أن ما في يده لا شبهة فيه لظلم أو مظلمة حتى ولو كان ورثه، خصوصاً وأن القصص والحكايات كانت كثيرة يتناقلها الناس عن مظالم ارتكبت على عهد خلفاء بني أمية، وعمالهم وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر: كان سيف أبي محلى بفضة فنزعها وحلاه حديداً ، وكان خروجه مما بيده من أرض أو متاع بعدة طرق كالبيع، ذلك أنه حين استخلف نظر إلى مكان له من عبد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غني، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل . أو عن طريق ردها إلى أصحابها الأصليين، وهذا ما فعله بالنسبة للقطائع التي أقطعه إياها قومه، يروي ابن الجوزي عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حتى تفرق الناس ودخل إلى أهله للقائلة فإذا منادٍ ينادي: الصلاة جامعة. قال: ففزعنا فزعاً شديداً مخافة أن يكون قد جاء فتق من وجه من الوجوه أو حدث. قال جويرية: وإنما كان أنه دعا مزاحماً فقال يا مزاحم، إن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب. فقال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكِلهم إلى الله؟ قال: ثم انطلق مزاحم من وجهه ذلك حتى استأذن على عبد الملك، فأذن له ـ وقد اضطجع للقائه ـ فقال له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حدث حدث؟ قال: نعم أشد الحدث عليك وعلى بني أبيك. قال: وما ذاك؟ قال: دعاني أمير المؤمنين ـ فذكر له ما قاله عمر ـ فقال عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت له يا أمير المؤمنين، تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع ويقول أكِلهم إلى الله تعالى. قال عبد الملك بنس وزير الدين أنت يا مزاحم. ثم وثب فانطلق إلى باب أبيه عمر، فاستأذن عليه، فقال له الآذن: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه الوقعة؟ قال عبد الملك: استأذن لي، لا أم لك. فسمع عمر الكلام، فقال من هذا؟ قال: هذا عبد الملك. قال: ائذن له. فدخل عليه ـ وقد اضطجع عمر للقائلةـ فقال: ما حاجتك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديث حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي على إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه. ثم قال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. نعم يا بني أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر. قال عمر: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس. فنادى المنادي: الصلاة جامعة. قال: فخرجت فأتيت المسجد فجاء عمر فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها وما كان لنا أن نقبلها. وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي: إقرأ يا مزاحم، قال ـ وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال جرنة ـ فيها تلك الكتب. قال: فقرأ مزاحم كتاباً منها، فلما فرغ من قراءته ناوله عمر ـ وهو قاعد على المنبر وفي يده جلم ـ قال: فجعل يقصه بالجلم. واستأنف مزاحم كتاباً آخر فجعل يقرؤه، فلما فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه ثم استأنف كتاباً آخر فما زال حتى نودي بصلاة الظهر ومن بين مارده عمر مما كان في يده من القطائع جبل الورس باليمن وقطائع باليمامة ، إلى جانب فدك وخيبر ، والسويداء، فخرج منها جميعاً إلا السويداء، فقد قال عمر فيها: ما من شيء إلا وقد رددته في مال المسلمين إلا العين التي بالسويداء فإني عمدت إلى أرض براح ليس فيها لأحد من المسلمين ضربة سوط، فعملتها من صلب عطائي الذي يجمع لي مع جماعة المسلمين وقد جاءت غلتها مائتا دينار . وأما قرية فدك ـ التي تقع شمال المدينة ـ فقد كانت تغل في السنة عشرة آلاف دينار تقريباً، فلما ولي عمر الخلافة سأل عنها وفحصها، فأخبر بما كان من أمرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ...فكتب ـ بناء على ذلك ـ إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتاباً قال فيه: أما بعد فإني نظرت في أمر فدك وفحصت عنه، فإذا هو لا يصلح لي، ورأيت أن أردها على ما كنت عليه في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، وأترك ما حدث بعدهم، فإذا جاءك كتابي هذا فاقبضها وولها رجلاً يقوم فيها بالحق والسلام . وأما الكتيبة فهي حصن من حصون خيبر، وعندما تولى عمر بن عبد العزيز كتب على عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقول: إفحص لي عن الكتيبة، أكانت من خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر أم كانت لرسول الله خاصة؟ قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق خمسة أجزاء فكانت للكتيبة جزءاً منها، وأعادها عمر بن عبد العزيز إلى ما كانت إليه في عهد رسول الله ، كما أرجع عمر للرجل المصري الذي أرضه بحلوان بعد أن عرف أن والده عبد العزيز قد ظلم المصري فيها، وحتى الدار التي كان والده عبد العزيز بن مروان قد اشترها من الربيع بن خارجه الذي كان يتيماً في حجره، ردها عليه، لعلمه أنه لا يجوز إشتراء الولي ممن يلي أمره، ثم التفت إلى المال الذي كان يأتيه من جبل الورس باليمن، فرده إلى بيت مال المسلمين رغم شدة حاجة أهله إلى هذا المال، لكنه كان يؤثر الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، كما أمر عمر بن عبد العزيز مولاه مزاحماً برد المال الذي كان يأتيه من البحرين كل عام إلى مال الله . وهكذا بدأ عمر بنفسه يضرب المثل ويكون الأسوة أمام رعيته حين رد من أملاكه كل ما شابته شائبة الظلم، أو الشك في خلاص حقه فيه، فرد كل ذلك إلى أصحابه، إنطلاقاً من تمسكه بالزهد، وإيمانه برد المظالم إلى أصحابها تقوى الله، ووضعاً للحق في نصابه، بعد أن انتهى من رد كل مال شك بأنه ليس له فيه حق اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان لها جوهر ـ فقال لها عمر: من أين صار هذا المال إليك؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت ، وقد أوضح عمر لها سبب كرهه له بقوله: قد علمت حال هذا الجوهر وما صنع فيه أبوك، ومن أصابه، فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجلعه في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه، وإن خلصت إليه أنفقته، وإن مت قبل ذلك فلعمري ليردنه إليك. قالت له: أفعل ما شئت وفعل ذلك: فمات ـ رحمه الله ـ ولم يصل إليه، فرد ذلك عليها أخوها يزيد بن عبد الملك فامتنعت من أخذه، وقالت: ما كنت لأتركه ثم آخذه، وقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه .


ـ رد مظالم بني أمية:


وإذا كان عمر قد بدأ بنفسه في رد المظالم فقد ثنى في ذلك بأهل بيته وبني عمومته وبإخوته من أفراد البيت الأموي، وفور فراغه من دفن بن عمه سليمان بن عبد الملك، فقد رأى ما أذهله وهو أن أبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو خلفائه الراشدين، فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم ومن تلك المظاهر المراكب الخلافية التي تتألف من براذين وخيول وبغال، ولكل دابة سائس، ومنها أيضاً تلك السرادقات والحجرات والفرش والوطاءات التي تعد من أجل الخليفة الجديد وفوجيء بتلك الثياب الجديدة وقارورات العطر والدهن التي أصبحت له بحجة أن الخليفة الراحل لم يصبها فهي من حقه بصفته الخليفة الجديد، وهذا كله إسراف وتبذير لا مبرر له يتحمله بيت مال المسلمين، وهو بأمس الحاجة لكل درهم فيه لينفق في وجهه الصحيح الذي بينه الله ورسوله، وهنا أمر مولاه مزاحماً فور تقديم هذه الزينة له ببيعها، وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين . ولقد كانت لعمر بن عبد العزيز سياسة محددة في رد المظالم من أفراد البيت الأموي تكون لديه خطوطها فور تسلمه زمام الخلافة، حين وفد عليه أفراد البيت الأموي عقب انصرافه من دفن سليمان يسألونه ما عودهم الخلفاء الأمويون من قبله، وحين أراد عبد الملك أن يرد أفراد البيت الأموي عن أبيه كشف له أبوه عن سياسته تلك حين قال له: وما تبلغهم؟ قال: أقول أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: ((قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))(الزمر ، الآية : 13) . ثم أوضحها له مرة أخرى حين جاءه يطالبه بالإسراع باستخلاص ما بأيدي الأمويين من مظالم، فقال: يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق في سببي محجمة من دم أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين ؟ ثم زاد في توضيح سياسته تلك حينما قال له ولده عبد الملك: ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟ فوالذي نفسي بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور، قال وحق هذا منك، قال: نعم والله قال عمر: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني إني لو باهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بداً من السيف ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف، يا بني، إني أروض الناس رياضة الصعبة، فإن بطأ بي عمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي وأن تعدو منيتي فقد علم الله الذي أريده . وهكذا يتبع عمر أسلوب الحكمة والحسنى في تنفيذ سياسته وتطبيقاً لهذه السياسة فإنه قد مهد لهذه الخطوة الحاسمة، والخطيرة بخطوات تسبقها خروجه هو أولاً مما بيده من مظالم وردها إلى أصحابها، أو بيت المال، ثم إتجه إلى أبناء البيت الأموي فجمعهم وطلب إليهم أن يخرجوا مما بأيدهم من أموال وإقطاعات أخذوها بغير حق . وشهدت الأيام الأولى من خلافة عمر تجريداً واسع النطاق لكثير من أموال وأملاك بني أمية، ظلت تنمو في الماضي وتتضخم لكونهم العائلة الحاكمة ليس إلا.. وها هي الآن ترد إلى بيت مال المسلمين لكي يأخذ العدل مجراه، وتعود أموال المسلمين إلى المسلمين، لا يستأثر بها أحد دون أحد، ولا حزب دون حزب.. أموال وأملاك من شتى الصنوف والأنواع، جمعت بمختلف الطرق وسائر الأساليب جرد عمر بني أمية منها ومزق مستنداتها واحدة واحدة، وردها إلى مكانها الصحيح: مظالم وجوائز وهدايا ومخصصات استثنائية وضياع وقطاع، جمعت كلها على شكل ممتلكات ثابتة ونقود سائلة بلغت في تقدير عمر شطراً كبيراً من أموال الأمة جاوزت النصف ، ولا تمضي سوى أيام معدودات حتى يجد بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، فيضجون ضد سياسة عمر هذه ويعلنون معارضتهم الصارمة لها، فماذا يكون جواب عمر. أنظروا: والله لوددت أن ألا تبقى في الأرض مظلمة إلا ورددتها على شرط ألا أرد مظلمة إلا سقط لها عضو من أعضائي أجد ألمه ثم يعود كما كان حياً، فإذا لم يبق مظلمة إلا رددتها سألت نفسي عندها ، ولكن بني أمية لم ييأسوا من هذا الحزم والعزم إزاء حقوق الأمة، وهم الذين ما خطر ببالهم يوماً أن يجردوا هذا التجريد فاجتمعوا وطلبوا من أحد أولاد الوليد وكان كبيرهم ونصيحهم، أن يكتب إلى عمر، فكتب إليه: أما بعد فإنك أنسيت ممن كان قبلك من الخلفاء وسرت بغير سيرتهم وسميتها المظالم نقصاً لهم لأعمالهم، وشاتماً لمن كان بعدهم من أولادهم ولم يكن ذلك لك، فقطعت ما أمر الله أن يوصل، وعملت بغير الحق في قرابتك وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم وحقوقهم فأدخلتهم بيت مالك ظلماً وجوراً وعدواناً فاتق الله يا ابن عبد العزيز وارجعه، فإنك قد أوشكت لم تطمئن على منبرك إن خصصت ذوي قربتك بالقطيعة والظلم، فوالله الذي خص محمد صلى اله عليه وسلم بما خصه من الكرامة لقد ازدادت من الله بعداً في ولايتك هذه التي تزعم أنها بلاء عليك، وهي كذلك، فاقتصد في بعض ميلك وتحاشيك ، ويظهر في هذا الكتاب مآخذ الأمويين على سياسة عمر وهي:


1_ خالف سيرة من قبله من الخلفاء وأزرى بهم وعاب أعمالهم.
2_ أساء إلى أولاد من قبله من الخلفاء.
3_ لم يكن عمله منسجماً مع الحق.
4_ إن قطيعة أهل بيته يهدد مكانه من الخلافة.

ولا ريب أن سياسة عمر بن عبد العزيز تهدد مكانة الأسرة الأموية وتضعف مراكز قوتها، وقد تؤدي إلى دفعها لإتخاذ مواقف مهددة للخليفة القائم، وفي هذا خطر كبير عليه وعلى الخلافة ، وكان رد عمر حمم من نار الحق تتفجر في كل كلمة فيها:.. ويلك وويل أبيك ما أكثر طلابكما وخصمائكما يوم القيامة... رويدك فإنه لو طالت بي حياة ورد الله الحق إلى أهله، تفرغت لك ولأهل بيتك، فأقمت على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وراءكم ..

بنو أمية يلجأون إلى أسلوب الحوار الهادي :

وما أن يأس بنو أمية من صمود عمر إزاء معارضتهم الجماعية الشديدة هذه، لجأوا إلى أسلوب الحوار الهادي، علهم يصلون عن طريقه إلى ما يشتهون فيتكلمون معه يوماً مستشيرين فيه نزعة القربى وعاطفة الرحم، فيجيبهم: أن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ أي المال العام ـ فحقكم فيه كحق أي رجل من المسلمين. والله أني لا أرى أن الأمور لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله ودخل عليه هشام بن عبد الملك يوماً فقال: يا أمير المؤمنين إني رسول قومك إليك، وإن في أنفسهم ما جئت لأعلمك به أنهم يقولون: إستأنف العمل برأيك فيما تحت يدك وخل بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم ولهم، وببديهة يجيب عمر: أرأيت أن أتيت بسجلين أحدهما من معاوية والآخر من عبد الملك فبأي السجلين آخذ؟ قال هشام: بالأقدم. فأجب عمر: فإني وجدت كتاب الله الأقدم، فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني .



بنو أمية يرسلون عمة عمر بن عبد العزيز:


فعندما عجز الرجال من بني أمية عن جعل عمر يخاف أو يلين عن سياسته إزاءهم، لجأوا إلى عمته فاطمة بنت مروان، وكانت عمته هذه لا تحجب عن الخلفاء ولا يرد لها طلب أو حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل استخلافه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها كعادته وألقى لها وسادة لتجلس عليها. فقالت: إن قرابتك يشكونك ويذكرونك أنك أخذت منهم خير غيرك قال: ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً. فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره. قال: فدعا بدينار، وجنب، ومجمرة، فألقى ذلك الدينار بالنار، وجعل ينفح على الدينار إذا احمر تناوله بشيء، فألقاه على الجمر فنشى وقتر فقال: أي عمه أما ترثين لابن أخيك من هذا ؟ وتؤخذ العمة بهذا المشهد المؤثر، وتلتفت إلى عمر طالبة منه أن يستمر في الكلام واسمعوه يقول وكأنه يرسم لوحة فنية رائعة للعدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام لكي يجعلها تفجر الخير والنعيم على الجميع قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم فيه سواء ثم ولي أبو بكر وترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك وابنه الوليد وسليمان أبناء عبد الملك حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه فقالت: حسبك، قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهم كلامه وجاء في رواية: إنها قالت لهم:.. أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده: فسكتوا



تلاشي المعارضة الجماعية لابني أمية:

وسرعان ما تلاشت السمة الجماعية لمعارضة بني أمية بعد ما رأوا من جد عمر إزاء أموال الأمة وقالوا: ليس بعد هذا شيء . ومن ثم أخذ كل منهم يسعى على إنفراد ليسترد ما يستطيع استرداده من الأموال، ولكن عمر الذي وقف تجاه رغباتهم مجتمعين، أحرى به الآن أن يتصدى لكل واحد منهم على انفراد ويعلمه أنّ حق الأمة لا يمكن أن يكون موضع مساومة في يوم من الأيام .
أ ـ رد الحقوق لأصحابها: لم يقف عمر عند حد استرداد الأموال من بني أمية وردها إلى بيت المال، بل يخطو خطوة أخرى ويعلن لأبناء الأمة الإسلامية أن كل من له حق على أمير أو جماعة من بني أمية أو لحقته منهم مظلمة، فليتقدم بالبينة لكي يرد عليه حقه.. وتقدم عدد من الناس بظلامتهم وبيّناتهم وراح عمر يردها واحدة بعد الأخرى: أراضٍ ومزارع وأموال وممتلكات ، ومرة بعث إليه واليه على البصرة برجل اغتصب أرضه فرد عمر هذه الأرض إليه ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إلي؟ قال: يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟ فأجابه عمر: إنما رددت عليك حقك، ثم ما لبث أن أمر له بستين درهماً كتعويض له عن نفقات سفره ، وقد قال ابن موسى: ما زال عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم منذ يوم استخلف إلى يوم مات ، وذات يوم قدم عليه نفر من المسلمين وخاصموا روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت ، قد قامت لهم البينة عليه، فأمر عمر روحاً برد الحوانيت إليهم، ولم يلتفت لسجل الوليد، فقام روح فتوعدهم، فردع رجل منهم وأخبر عمر بذلك، فأمر عمر صاحب حرسه أن يتبع روحاً فإن لم يرد الحوانيت إلى اصحابها فليضرب عنقه، فخاف روح على نفسه وردّ إليهم حوانيتهم ، وردّ عمر أرضاً كان قوم من الأعراب أحيوها، ثم انتزعها منهم الوليد بن عبد الملك فأعطاها بعض أهله، فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:.. من أحيا أرضاً ميتة فهي له ، ولقد أحبّ آل البيت وأعاد إليهم حقوقهم وقال مرة لفاطمة بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحبّ إليَّ منكم ولأنتم أحب إليَّ من أهل بيتي


ب ـ عزله جميع الولاة والحكام الظالم
زكريا محمد وحيد
زكريا محمد وحيد

عدد المساهمات : 1167
تاريخ التسجيل : 16/10/2010
العمر : 73
الموقع : العباسيه القاهره

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز Empty رد: سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز

مُساهمة  زكريا محمد وحيد الإثنين ديسمبر 20, 2010 6:32 pm


لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة عمد إلى جميع الولاة والحكام المسؤولين الظالمين فعزلهم عن مناصبهم، ومنهم خالد بن الريان وصاحب حرس سليمان بن عبد الملك الذي كان يضرب كل عنق أمره سليمان بضربها، وعين محله عمرو بن مهاجر الأنصاري فقال عمر بن عبد العزيز: يا خالد ضع هذا السيف عنك، اللهم، إني قد وضعت لك خالد بن الريان اللهم لا ترفعه أبداً، ثم قال لعمرو بن مهاجر: والله؟ إنك لتعلم يا عمرو، إنه ما بيني وبينك قرابة إلا قربة الإسلام ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن ألا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة خذ هذا السيف قد وليتك حرسي . وهكذا يعزل عمر الظالمين وهذا أسلوبه في اختيار الولاة والقضاة والكتاب وغيرهم، إنه يبحث عن أصلح الناس ديناً وأمانة، ولما انتقد أحد ولاته الذين اختارهم نكت بين عينيه بالخيزرانة في سجدته وقال: هذه غرتني منك. يريد سجدته أي أثر السجود في وجهه، فهذه علامة من علامات صلاح الرجل وهي دليل على كثرة السجود، ومن أجل ذلك اختاره عمر بن عبد العزيز، وعمر لا يكتفي بمظهر الرجل ولكنه يختبره أيضاً، قد رأى رجلاً كثير الصلاة، وأراد أن يمتحنه ليوليه، فأرسل إليه رجلاً من خاصته فقال: يا فلان إنك تعلم مقامي عند أمير المؤمنين فمالي لو جعلته يوليك على أحد البلدان؟ فقال الرجل: لك عطاء سنة، فرجع الرجل إلى عمر وأخبره بما كان من هذا الرجل، فتركه لأنه سقط في الاختبار ن وكان من ضمن من عزلهم عمر بن عبد العزيز: أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر، لأنه كان غاشماً ظلوماً يعتدي في العقوبات بغير ما أنزل الله عز وجل، يقطع الأيدي في خلاف ـ دون تحقق شروط القطع ـ فأمر به عمر بن عبد العزيز أن يحبس في كل جُنُد سنة ويقيد ويحل عنه القيد عند كل صلاة ثم يرد في القيد، فحبس بمصر سنة، ثم فلسطين سنة ثم مات عمر وولي يزيد بن عبد الملك الخلافة فردّ أسامة على مصر في عمله ، وكتب عمر بن عبد العزيز بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية وكان عامل سوء يظهر التأله والنفاد لمل ما أمر به السلطان مما جل أو صغر من السيرة بالجور، والمخالفة للحق، وكان في هذا يكثر التسبيح والذكر ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون وهو يقول: سبحان الله والحمد لله شد يا غلام موضع كذا وكذا، لبعض مواضع العذاب وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام شد موضع كذا وكذا، فكانت حالته تلك شر الحالات، فكتب عمر بعزله ، وهكذا استمر عمر في عزل الولاة الظلمة وتعيين الصالحين وسيأتي الحديث عن فقه عمر في تعامله مع الولاة في محله بإذن الله تعالى.


ج ـ رفع المظالم عن الموالي:


تعرض الموالي قبل عمر بن عبد العزيز للمظالم فقد فرضت الجزية على من أسلم منهم، كما منعوا من الهجرة مثلما حدث للموالي في العراق ومصر وخراسان وفي عهد عبد الملك أوقع الحجّاج بالموالي ظلم عظيم، فقد عمل على إبقاء الجزية على من أسلم منهم، وحرمهم من الهجرة من قراهم وهذا ما دفعهم للاشتراك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجّاج، كما وقع الظلم على الموالي في مصر وخراسان، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أزال تلك المظالم التي لحقت بهؤلاء الموالي وكتب إلى عماله يقول".. فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي من أهل الجزيرة اليوم فخالط المسلمين في دارهم، وفارق داره التي كان بها فإن له للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه غير أرضه وداره إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة، ولو كانوا أسلموا عليها قبل أن يفتح الله للسملمين كانت لهم، ولكنها فيء الله على المسلمين عامة ، وكتب إلى عامله على مصر حيان بن شريح ـ يقول: وأن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فإن الله تبارك وتعالى قال: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (التوبة ، الآية : 5) وقال: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة ، الآية : 29). إلا إن هذا العامل أرسل إلى عمر يقول: أما بعد، فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن نابتة عشرون ألف دينار أتممتها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل . وجاء رد عمر:أما بعد ، فقد بلغني كتابك وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي يضربك على رأسك عشرين سوطاً، فضع الجزية عن من أسلم ـ قبح الله رأيك ـ فإن الله إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً، ولعمري ولعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على دينه . وفي رواية ابن سعد: أما بعد، فإن الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطو كتابك وأقبل . ولم يكن عامل عمر على مصر هو الوحيد الذي طلب من عمر السماح له في أخذ الجزية ممن أسلم، فها هو عامله على الكوفة ـ عبد الحميد بن عبد الرحمن ـ يسأله أخذ الجزية المتراكمة على اليهود والنصارى والمجوس الذين أسلموا، فجاءه رد عمر الواضح أيضاً يقول: كتبت إلي تسألني عن أناس من أهل الحيرة يسلمون من اليهود والنصارى والمجوس وعليهم جزية عظيمة، وتستأذنني في أخذ الجزية منهم، وإن الله جل ثناؤه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه جابياً، فمن أسلم من أهل تلك الملل فعليه في ماله الصدقة ولا جزية عليه، وميراثه ذوي رحمه إذا كان منهم يتوارثون أهل الإسلام، وإن لم يكن له وارث فميراثه في بيت مال المسلمين الذي يقسم بين المسلمين، وما أحدث من حدث ففي مال الله الذي يقسم بين المسلمين يعقل عنه منه والسلام . كما كتب إليه عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة ـ يقول: أما بعد، فإن الناس كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج. فكتب إليه عمر: فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا . هذا إلى جانب إبطاله لمظلمة المنع من الهجرة التي أوقعها الحجّاج بالموالي في العراق، وهكذا أبطل عمر تلك المظالم التي أصابت الموالي، فترتب على ذلك أن أعاد إليهم حقوقهم المسلوبة والهدوء والطمأنينة إلى نفوسهم، وباتوا ينعمون بالمساواة والعدل مع غيرهم من أبناء الأمة الإسلامية

.
ح ـ رفع المظالم عن أهل الذمة:

زاد عبد الملك في عهده الجزية على أهل قبرص وكان معاوية بن أبي سفيان غزا قبرص بنفسه وصالحهم صلحاً دائماً على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين، وإنذارهم عدوهم من الروم ولم يزل أهل قبرص على صلح معاوية حتى ولي عبد الملك بن مروان، فزاد عليهم ألف دينار، فجرى ذلك إلى عهد عمر بن عبد العزيز فحطها عنهم ، كما أصابت الزيادة فيما يجبى من جزية أهل الذمة في العراق وقد وضعها عنهم عمر بن عبد العزيز كسياسة عامة التزم بها في أن يرفع المظالم عن أهل الذمة حتى يدعهم ينعمون بحياتهم في ظل الشرائع الإسلامية السمحة ويؤيد ذلك ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا ، وخسراناً مبيناً، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحاً لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه ، كما بلغت سياسة عمر بن عبد العزيز في وضع المظالم عن الناس ومساعدتهم أيضاً حين كتب إلى عامله على الكوفة يقول: انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوي به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين ، وقد أمر عمر ولاته بالأخذ بالرحمة والرأفة بالناس، فقد منع تعذيب أهل البصرة وغيرهم لاستخراج الخراج منهم، وعندما أرسل إليه عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: إن أناساً قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج حتى يمسهم شيء من العذاب فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر كأني جنة لك من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، وإذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك فاقبله عفواً وإلا فأحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلى من أن ألقاه بعذابهم. والسلام . ومما أصاب أهل الذمة من المظالم قبل عهد عمر بن عبد العزيز سبى بنات ونساء من لواتة بشمال أفريقية ولكن عمر رد هذه المظلمة يذكر أبو عبيد: أن عمر بن عبد العزيز كتب في اللواتيات: من أرسل منهن شيئاً فليس من ثمنها شيء وهو ثمن مرجها الذي استحلها به ـ أو كلمة تشبه الثمن ـ قال: ومن كانت عنده امرأة منهن فليخطبها إلى أبيها، وإلا فليردها إلى أهلها قال أبو عبيد: قوله اللواتيات هن من لواتة: فرقة من البربر، يقال لهم لواتة أراه قد كان لهن عهد، وهم الذين كان ابن شهاب يحدث: أن عثمان أخذ الجزية من البربر، ثم أحدثوا بعد ذلك فسبوا. فكتب عمر بن عبد العزيز بما كتب به ، كما أرجع عمر بن عبد العزيز إلى أهل الذمة كل أرض أو كنيسة أو بيت اغتصب منهم ، ومما رفعه عمر عن أهل الذمة من المظالم السخرة التي على أساس أنه يحل للمسلمين أن يسخروا أهل الذمة لمصالحهم الشخصية طالما أن هذا غير موجود في صلحهم . فكتب إلى عماله يقول:... ونرى أن توضع السخر عن أهل الأرض، فإن غايتها أمر يدخل فيه الظلم ، وهكذا رد عمر بن عبد العزيز ما اصاب أهل الذمة من مظالم، فترتب على ذلك أن أعاد السكينة، والطمأنينة والهدوء إليهم، وأوضح لهم، إن بإمكانهم أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنين تشملهم سماحة الدين ويظلهم عدله، وتستقيم أمورهم وشؤونهم في كنفه، لا يضارون ولا يستضعفون ولا يستعبدون لهم حقوقهم المعلومة وعليهم واجباتهم المحددة ضمنها لهم الشارع الحكيم، وما تأسس من أحكام كتاب الله وسنة رسوله الكريم .
منقول

سلسلة الخليفة المحبوب عمر بن عبد العزيز Abomlak.com-c5c43af087
زكريا محمد وحيد
زكريا محمد وحيد

عدد المساهمات : 1167
تاريخ التسجيل : 16/10/2010
العمر : 73
الموقع : العباسيه القاهره

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى